Tuesday, January 31, 2017

عاقل بدرجة مجنون!!

| محمد ناصر العطوان |



الجميع يقول عنه إنه مجنون، ورغم ذلك فالجميع يطلب منه المساعدة وهم متأكدون من أنه سيفي بالغرض.

ما إن تكلمت معه، حتى تساءلت عن درجات الجنون!

يحمل أكياساً لسيدة من أولئك اللاتي ما زلن ينزلن في الصباح من أجل شراء الخضراوات ومكونات طبخة اليوم بيومه، وينام في المستشفى مع مريض خذله أهله وتخلوا عنه، ويسأل عن العائدين من السفر رغم أنهم لا يذكرونه بشيء، ويذكر الذين ماتوا ويترحم عليهم ويشعرك أنهم عظماء كانوا يستحقون تكريما لم ينالوه، ويمشي مع امرأة توفي عنها زوجها ليخلص أوراق التأمينات، ولا يغضب أبدا من كل أولئك الذين يقولون عنه مجنونا!

لماذا إذاً يقولون عنه مجنونا؟ أسأل أحدهم فيقول لي: كذب كذبة واحدة، ادعى أنه متزوج، وله بيت هادئ وأبناء خفيفو الظل وطلبات للبيت وتحمل للمسؤولية والرجولة ولكن في خياله فقط، يستطيع أن يسرد لك قصة خلاف مع أهل زوجته التي لم يتزوجها أصلاً بكلام منطقي ولكنه غير حقيقي، ورغم أن كل الناس تعرفه إلا أن أحداً لم يكلف نفسه أن يسأله لماذا كذبة الزواج بالتحديد!! وهكذا فقد أصبح مجنوناً قابلا للخدمة ولكن غير قابل للتصديق إلا إذا زل لسانه بفضيحة من فضائح الحي الذي يسكنه حيث يحب الناس العقلاء سماع الفضائح من المجنون الذي يدخل كل بيت.

للمجنون الذي يجر وراءه 40 عاماً رأي آخر بالتأكيد «أنا لم أركض وراء أي أحد بالحجارة يوماً، ولم أعذب القطط، وأطلب الأشياء ولا أسرقها، في الواقع كتب الله لي رزقا، منه تلك الحياة التي أعيشها وتلك الأموال التي في جيبي، أعيش حياة هادئة أصرف بها على زوجتي وأبنائي، فما الذي يجعل الناس تنظر لي كمجنون»؟.

ثم شرع يشرح لي قصة منطقية غير حقيقية عن خبر تلقيه لوفاة أخته بينما كان يجلس مع زوجته وأبنائه مرتاح البال، وبينما هو منهمك في بناء سردي روائي متين أخذني الخيال بعيداً لأتساءل عن عدد الكذبات التي رددتها نفسي لأصدقها أنا قبل أن يصدقها الناس، وأتساءل عن عدد الكذبات المنطقية وغير الحقيقية أيضاً التي زرعتها الحكومات في مخيلة الشعوب.

كذبة واحدة، بأصول سرد غاية في الواقعية جعلت من هذا الرجل مجنوناً أمام الناس.

كذبات كثيرة بأداء سردي رديء جعلت من غيره عضواً في البرلمان، أو مسؤولاً كبيراً، أو دكتوراً جامعياً مزوراً، أو طبيباً غير لائق مهنياً، أو معلماً لا يعلم، أو زوجاً غير صالح للزواج، أو مطرباً يعاني خللاً في حباله الصوتية، أو حتى كاتباً يدعي أنه لا يخاف بعد كل مقال سياسي يرسله!

نطاق كذبة هذا الرجل صغير ومحدود، نطاق كذباتنا أكبر... لذلك يطلق علينا العقلاء.

ودائماً في نطاق العقلاء ستسمع عن الإنسانية وعن الأخلاق وعن الحب بكلام منطقي غاية في الروعة، ولكن بعالم مليء بحقائق تدعوك للتقيؤ من أناس تدوس على أناس آخرين، ولا أحد يحمل لأحد الحقائب، وأناس تعذب الحيوانات وتسرق الأشياء ولا تطلبها، نطاق مليء بحالات الطلاق وليس حالات الزواج كما يتمنى المجنون، أناس تتكلم عن الله كثيرا ولكنها لا تعرفه! ولذلك تنسى موتاها بسرعة.

خرجت من خيالي لاصطدم بواقع المجنون الذي أنهى بناءه الروائي وهو ينتقل فجأة بوجهه نحو الأفق ويقول «أفكر أن أزرع شجرة في صالة بيتي،لأوزع ثمارها في وادي المستضعفين».

قلت في نفسي «هل قال وادي المستضعفين»؟.

التفت حولي فإذا بكل من كانوا معنا من أصدقاء اختفوا، وذهبوا لصلاة العشاء في مسجد الإمام الحسين الذي يطل بمئذنته العريقة على كل أحياء مصر، حيث كنا جالسين في مقهى مليء بالسياح العقلاء الذين يتصرفون تصرفات المجانين.

جلست وحدي معه، وتحدثنا أمام المسجد كأننا صديقان قديمان بعمر المسجد، لم يميز المارة أيهم العاقل وأيهم المجنون، بما فيهم الباعة المتجولون الذين أصيبوا بحالة من اليأس من اختراق حديث من هذا النوع.

في الواقع لم نكن نهتم كثيراً لما يقوله المارة الذين يحملون قصصاً مختلفة.

فإما اننا جميعاً عقلاء ولكن بدرجات، وإما اننا جميعاً مجانين ولكن بقصص مختلفة.

إعلان عاقل:

د. أحمد يوسف

استشاري تلقين الشهادة والجلوس بجانب المريض إلى أن يتوفاه الله.



عاقل بدرجة مجنون!!

No comments:

Post a Comment