Wednesday, February 1, 2017

فضل الصدقة العجيب / ابن الجوزية




فصل الصدقة واثارها وامركم بالصدقة فان مثل ذلك مثل رجل اسره العدو فاوثقوا يده منهم. هذا ايضا من الكلام الذي برهانه وجوده. ودليله وقوعه. فان للصدقة تاثيرا عجيبا في دفع انواع البلاء ولو كانت من فاجر او من ظالم بل من كافر. فان الله تعالى يدفع بها عنه انواعا من البلاء وهذا امر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم واهل الارض كلهم مقرون به لانهم جربوه.


وقد روى الترمذي في جامعه من حديث انس بن مالك ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ان الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء. وكما انها تطفئ غضب الرب تبارك وتعالى فهي تطفئ الذنوب والخطايا كما تطفئ الماء النار.


وفي الترمذي عن معاذ بن جبل قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فاصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقال ألا ادلك على ابواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل شعار الصالحين ثم تلا تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون.


وفي بعض الاثار باكروا بالصدقة فان البلاء لا يتخطى الصدقة.


وفي تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بمن قدم ليضرب عنقه فافتدى نفسه منهم بماله كفاية. فان الصدقة تفدي العبد من عذاب الله تعالى فان ذنوبه وخطاياه تقتضي هلاكه فتجئ الصدقة تفديه من العذاب وتفكه منه.


ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما خطب النساء يوم العيد يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن فاني رايتكن اكثر اهل النار وكانه حثهن ورغبهن على ما يفدين به انفسهن من النار.


وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكم من احد الا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر ايمن منه فلا يرى الا ما قدم وينظر اشام منه فلا يرى الا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى الا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة.


وفي حديث ابي ذر انه قال سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا ينجي العبد من النار قال الايمان بالله قلت يا نبي الله مع الايمان عمل قال ان ترضخ مما خولك الله او ترضخ مما رزق الله قلت يا نبي الله فان كان فقيرا لا يجد ما يرضخ قال يامر بالمعروف وينهى عن المنكر قلت ان كان لا يستطيع ان يامر بالمعروف وينهى عن المنكر قال فليعن الاخرق قلت يارسول الله ارايت ان كان لا يحسن ان يصنع قال فليعن الا مظلوما قلت يارسول الله ارايت ان كان ضعيفا لا يستطيع ان يعين مظلوما قال ما تريد ان تترك في صاحبك من خير ليمسك اذاه عن الناس قلت يا رسول الله ارايت ان فعل هذا يدخل الجنة قال ما من مؤمن يصيب خصلة من هده الخصال الا اخذت بيده حتى ادخلته الجنة. ذكره البيهقي في كتاب شعب الايمان.


قال عمر بن الخطاب ذكر لي ان الاعمال تتباهى فتقول الصدقة انا افضلكم.


وفي الصحيحين عن ابي هريرة قال ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد او جنتان من حديد قد اضطرت ايديهما الى ثدييهما وتراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى انامله وتعفو اثره وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت واخذت كل حلقة مكانها. قال ابو هريرة فانا رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول باصبعه هكذا في جبته فرايته يوسعها ولا تتسع.


ولما كان البخيل محبوسا عن الاحسان ممنوعا عن البر والخير كان جزاؤه من جنس عمله فهو ضيق الصدر ممنوع من الانشراح ضيق العطن صغير النفس قليل الفرح كثير الهم والغم والحزن لا يكاد تقضى له حاجة ولا يعان على مطلوب فهو كرجل عليه جبة من حديد قد جمعت يداه الى عنقه بحيث لا يتمكن من اخراجها ولا حركتها وكلما اراد اخراجها او توسيع تلك الجبة لزمت كل حلقه من حلقها موضعها وهكذا البخيل كلما اراد ان يتصدق منعه بخله فبقي قلبه في سجنه كما هو .


والمتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه وانفسح بها صدره فهو بمنزلة اتساع تلك الجبة عليه فكلما تصدق اتسع وانفسح وانشرح وقوي فرحه وعظم سروره ولو لم يكن في الصدقة الا هذه الفائدة وحدها لكان العبد حقيقا بالاستكثار منها والمبادرة اليها وقد قال تعالى ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون.


كان عبد الرحمن بن عوف او سعد بن ابي وقاص يطوف بالبيت وليس له دأب الا هذه الدعوة رب قني شح نفسي رب قني شح نفسي فقيل له اما تدعو بغير هذه الدعوة فقال اذا وقيت شح نفسي فقد افلحت.


والفرق بين الشح والبخل ان الشح هو شدة الحرص على الشئ والإحفاء في طلبه والاستقساء في تحصيله وجشع النفس عليه. والبخل منع انفاقه بعد حصوله وحبه وامساكه. فهو شحيح قبل حصوله بخيل بعد حصوله. فالبخل ثمرة الشح والشح يدعو الى البخل. والشح كامن في النفس فمن بخل فقد اطاع شحه ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووقى شره وذلك هو المفلح ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.


والسخي قريب من الله تعالى ومن خلقه ومن اهله وقريب من الجنة وبعيد من النار والبخيل بعيد من خلقه بعيد من الجنة قريب من النار فجود الرجل يحببه الى اضداده وبخله يبغضه الى اولاده.

وحد السخاء بذل ما يحتاج اليه عند الحاجة وان يوصل ذلك الى مستحقه بقدر الطاقة. وليس كما قال البعض من نقص عمله حد الجود بذل الموجود. ولو كان كما قال هذا القائل لارتفع اسم السرف والتبذير.


وقد ورد الكتاب بذمهما وجاءت السنة بالنهي عنهما واذا كان السخاء محمودا فمن وقف على حده سمي كريما وكان للحمد مستوجبا ومن قصر عنه كان بخيلا وكان للذم مستوجبا.


وقد روي في اثر ان الله عز وجل اقسم بعزته الا يجاوزه بخيل.


والسخاء نوعان فاشرفهما سخاؤك عما بيد غيرك. والثاني سخاؤك ببذل ما في يدك. فقد يكون الرجل من اسخى الناس وهو لايعطيهم شيئا لإنه سخا عما في ايديهم. وهذا معنى قول بعضهم السخاء ان تكون بمالك متبرعا وعن مال غيرك متورعا.


وسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول اوحي الله الى ابراهيم اتدري لم اتخدتك خليلا قال لا قال لاني رايت العطاء احب اليك من الاخذ. وهذه صفة من صفات الرب جل جلاله فانه يعطي ولا ياخذ ويطعم ولا يطعم وهو اجود الاجودين واكرم الاكرمين. واحب الخلق اليه من اتصف بمقتضيات صفاته فانه كريم يحب الكريم من عباده وعالم يحب العلماء وقادر يحب الشجعان وجميل يحب الجمال.


وروى الترمذي في جامعه قال حدثنا محمد بن بشار حدثنا ابو عامر اخبرنا خالد بن الياس عن صالح بن ابي حسان قال سمعت سعيد بن المسيب يقول ان الله طيب يحب الطيب نظيف يحب النظافة كريم يحب الكرم جواد يحب الجود فنظفوا اخبيتكم ولا تشبهوا باليهود. قال فذكرت للمهاجرين مسمار فقال حدثنيه عامر بن سعد عن ابيه رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم الا انه قال
فنظفوا افنيتكم. هذا حديث غريب خالد بن الياس يضعف.


وفي الترمذي ايضا في كتاب البر قال حدثنا الحسن بن عرفه حدثنا سعيد بن محمد الوراق عن يحيى بن سعيد عن الاعرج عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار ولجاهل سخي احب الى الله تعالى من عابد بخيل.


وفي الصحيح ان الله تعالى وتر يحب الوتر وهو سبحانه وتعالى رحيم يحب الرحماء وانما يرحم من عباده الرحماء وهو ستير يحب من يستر على عباده وعفو يحب من يعفوا عنهم من عباده وغفور يحب من يغفر لهم من عباده ولطيف يحب من اللطيف من عباده ويبغض الفظ الغليظ القاسي الجعظري الجواظ ورفيق يحب الرفق وحليم يحب الحلم وبر يحب البر واهله وعدل يحب العدل وقابل المعاذير يحب من يقبل معاذير عباده ويجازي عبده بحسب هذه الصفات فيه وجودا وعدما. فمن عفا عفا عنه ومن غفر غفر له ومن سامح سامحه ومن حاقق حاققه ومن رفق بعباده رفق به ومن رحم خلقه رحمه ومن احسن اليهم احسن اليه ومن جاد عليهم جاد عليه ومن نفعهم نفعه ومن سترهم ستره ومن صفح عنهم صفح عنه ومن تتبع عورتهم تتبع عورته ومن هتكهم هتكه وفضحه ومن منعهم خيره منعه خيره ومن شاق شاق الله تعالى به ومن مكر مكر به ومن خادع خادعه ومن عامل خلقه بصفة عاملة الله تعالى بتلك الصفة بعينها في الدنيا والاخرة. فالله تعالى لعبده على ما حسب ما يكون العبد لخلقه.


ولهذا جاء في الحديث من ستر مسلما ستره الله تعالى في الدنيا والاخرة ومن نفس عن مؤمن كربه من كرب الدنيا نفس الله تعالى عنه كربه من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله تعالى حسابه ومن اقال نادما اقال الله تعالى عثرته ومن انظر معسرا او وضع عنه اظله الله تعالى في ظل عرشه لانه لما جعله في ظل الانظار والصبر ونجاه من حر المطالبة وحرارة تكلف الاداء مع عسرته وعجز نجاه الله تعالى من حر الشمس يوم القيامة الى ظل العرش.


وكذلك الحديث الذي في الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال في خطبته يوما
يا معشر من امن بلسانه ولم يدخل الايمان الى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فانه من تتبع عورة اخيه يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته فكما تدين تدان وكن كيف شئت فان الله تعالى لك كما تكون انت ولعباده.


ولما اظهر المنافقون الاسلام واسروا الكفر واظهر الله تعالى لهم يوم القيامة نورا على الصراط واظهر لهم انهم يجوزون الصراط واسر لهم ان يطفئ نورهم وان يحال بينهم وبين الصراط من جنس اعمالهم وكذلك من يظهر للخلق خلاف ما يعمله الله فيه فان الله تعالى يظهر له في الدنيا والاخرة اسباب الفلاح والنجاح والفوز ويبطن له خلافها.


وفي الحديث من راءى راءى الله به ومن سمع سمع الله به والمقصود ان الكريم المتصدق يعطيه الله مالا يعطي جزاء له من جنس عمله



منقول من كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب.
للامام شمس الدين محمد بن ابي بكر بن قيم الجوزية.





فضل الصدقة العجيب / ابن الجوزية

No comments:

Post a Comment